في ظلال قصر الجن ليلة لا تُنسى في فاس

في ظلال قصر الجن ليلة لا تُنسى في فاس
في قلب فاس القديمة المتاهة، حيث تتهامس الجدران العتيقة بأسرار الماضي، يضل سائح طريقه ليلاً ليجد نفسه أمام قصر مهجور ينبض بضوء خافت. فضول قاتل يقوده إلى الداخل، ليكتشف رعبًا كامنًا وكيانًا غامضًا يتربص في الظلام. ليلة واحدة كفيلة بأن تحوله من سائح فضولي إلى شاهد على عالم آخر، عالم تتلاشى فيه الحدود بين الواقع والكابوس، تاركة إياه أسيرًا لذكرى لا تُنسى في "قصر الجن".

همسات الليل في أزقة فاس القديمة

كانت ليلة صيفية خانقة تلف مدينة فاس القديمة بعباءة من الحرارة والرطوبة. رائحة الياسمين الثقيلة، التي عادة ما تكون آسرة، بدت في تلك اللحظات وكأنها تخنق الأنفاس، تزيد من وطأة الغموض الذي يلف المكان بعد منتصف الليل. كنت أتيه وحيدًا في متاهة أزقتها المتعرجة، تلك الشوارع الضيقة المتداخلة التي تشبه شرايين مدينة عريقة تحتفظ بأسرار قرون مضت. كان هدفي العثور على تلك الزاوية الخفية التي أشار إليها صديقي، واعدًا إياي بتجربة شاي النعناع الأصيل الذي لا يُنسى. لكن بدلًا من رائحة النعناع المنعشة، كان يلفني إحساس غريب، قشعريرة تسري في عظامي رغم حرارة الجو اللاذعة. لم يكن الأمر مجرد الشعور بالوحدة في مدينة غريبة عني، بل كان إحساسًا أعمق، شعورًا بأن هناك شيئًا ما يراقب خطواتي من بين الظلال الكثيفة التي تخفي حكايات الماضي المنسي.

لطالما سمعت عن قصص الجن والأرواح التي تسكن الدور القديمة في فاس، تلك القصور الشاهقة بجدرانها السميكة التي تحجب الأسرار خلف واجهاتها الصامتة، وساحاتها الداخلية الغامضة التي تحتفظ بهمسات الماضي. كان السكان المحليون يتداولون هذه الحكايات بصوت خفيض، يتبادلون روايات عن أصوات غريبة تُسمع في سكون الليل، وظلال تتحرك من تلقاء نفسها في غياب أي رياح، وهمسات مبهمة لا يمكن تحديد مصدرها أو فهم معناها. كنت دائمًا أعتبر هذه القصص مجرد خرافات شعبية، نتاج مخيلة قروية خصبة، لكن في تلك الليلة بالذات، بدأ الشك يتسلل إلى يقيني الصلب، وبدأت أتساءل عما إذا كان هناك ما هو أكثر من مجرد أساطير.

الضياع في متاهة الظلام والفضول القاتل

في غمرة بحثي عن تلك الزاوية الموعودة، وجدت نفسي وقد ضعت تمامًا في متاهة الأزقة الضيقة. بدت الشوارع وكأنها شبكة عنكبوت معقدة، وكل زاوية انعطفتها كانت تكشف عن ممر آخر أكثر ظلمة وغموضًا من سابقه. بدأت أصوات خافتة تصل إلى أذني، همسات مبهمة لا يمكن تمييز كلماتها، لكنها كانت كافية لإثارة القلق في قلبي الذي بدأ يخفق بقوة. توقفت للحظة، أحاول بجهد تحديد مصدر هذا الصوت الغامض، لكن سرعان ما عاد الصمت ليخيم على المكان، صمت أثقل وأكثر إيحاءً بالشر من ذي قبل.

فجأة، وبينما كنت أبحث بعيني في الظلام الدامس، لمحْتُ ضوءًا خافتًا يتسلل من نافذة عالية في أحد الدور القديمة. كان القصر يبدو مهجورًا للوهلة الأولى، فنوافذه مغلقة بإحكام، وآثاره الباهتة تدل على مرور زمن طويل دون أن تطأه قدم أو تجدد جدرانه. لكن هذا الضوء الخافت، الذي ينبض بحياة غريبة وسط هذا السكون المطبق، لفت انتباهي بشكل لا يقاوم. دفعني الفضول الجامح، وهو رفيق المغامرات الخطير الذي لطالما جرّني إلى مواقف غير مأمونة، إلى الاقتراب من هذا القصر الغامض.

ولوج قصر الجن حيث الماضي يلتقي بالحاضر المخيف

كان الباب الخشبي الضخم للقصر مواربًا بشكل طفيف، وكأنه يدعوني للدخول إلى عالمه المنسي. ترددت للحظة وجيزة، صراع داخلي بين الخوف المترسخ في أعماقي والرغبة الملحة في كشف سر هذا الضوء الغامض الذي ينبعث من قلب الصمت. في النهاية، انتصر الفضول، ودفعت الباب بهدوء حذر وولجت إلى الداخل، تاركًا خلفي صخب المدينة النائمة.

استقبلني فناء داخلي واسع، مغطى ببلاط تقليدي مزخرف بألوان باهتة، لكنه كان مغطى بطبقة سميكة من الغبار والأتربة، مما يشير بوضوح إلى هجره منذ عقود طويلة. في منتصف الفناء، كانت هناك نافورة جافة، عليها آثار طحالب خضراء باهتة، شاهدة صامتة على زمن مضى. كان القمر بدراً تلك الليلة، وألقى بضوئه الشاحب على المكان، خالقًا لوحة من الظلال الطويلة والمخيفة التي تتراقص على الجدران العتيقة، وكأنها أرواح تحاول التواصل معي من عالم آخر.

الصعود إلى مصدر الضوء لقاء في الظلام

تبعْتُ مصدر الضوء الخافت، الذي كان يزداد قوة كلما توغلت أكثر في أعماق القصر المهجور. صعدت درجًا حجريًا قديمًا، كانت كل خطوة فيه تُحدث صريرًا مخيفًا يتردد في أرجاء القصر الصامت، وكأنه أنين الماضي يستيقظ من سباته الطويل. وصلت أخيرًا إلى الطابق العلوي، حيث انبعث الضوء من غرفة مغلقة تقع في نهاية الممر المظلم.

توقفت أمام الباب الخشبي المغلق، أستمع بإنصات شديد. لم يكن هناك أي صوت قادم من الداخل، سوى دقات قلبي المتسارعة التي كانت تدوي في أذني كطبول حرب. رفعت يدي المرتعشة ببطء شديد ودفعت الباب بهدوء حذر.

انفتحت الغرفة على مشهد غريب ومروع تجمدت له الدماء في عروقي. كانت الغرفة مضاءة بعدة شموع متوهجة، موضوعة على طاولة خشبية قديمة في منتصف الغرفة، تلقي بضوءها الراقص على الجدران المتصدعة. وعلى الطاولة، كان هناك كتاب مفتوح، يبدو قديمًا جدًا ومهترئ الصفحات، وبعض الأدوات الغريبة التي لم أستطع التعرف عليها، أدوات ذات أشكال غير مألوفة تنبعث منها رائحة عتيقة. لكن ما أثار رعبي الحقيقي وشلّ حركتي لم يكن هذه الأشياء الجامدة، بل الكيان الجالس على كرسي عتيق في زاوية الغرفة المظلمة.

نظرة تخترق الروح مواجهة الكيان الغامض

كان الكيان يبدو كامرأة عجوز للوهلة الأولى، لكن ملامحها كانت مشوهة وغريبة بشكل لا يصدق. عيناها كانتا واسعتين وسوداوين بشكل مخيف، خاليتين من أي بريق للحياة، وبشرتها شاحبة كالشمع الذائب، تكاد تتوهج في الظلام. كانت ترتدي ثوبًا أسودًا فضفاضًا يغطي جسدها النحيل وكأنه جزء من الظلام نفسه. لم تتحرك أو تصدر أي صوت، لكن نظراتها الثابتة كانت مثبتة عليّ، وكأنها تخترق روحي، تنفذ إلى أعماق وعيي وتكشف عن أعمق مخاوفي.

تجمدت في مكاني، غير قادر على الحركة أو الكلام، وكأنني تحولت إلى تمثال من الشمع. كان الخوف البارد يشلّ أوصالي، ويجعل أنفاسي قصيرة ومتقطعة. شعرت بطاقة خبيثة تنبعث من هذا الكيان الغريب، جو من الشر المطلق يلف الغرفة ويضغط على صدري.

همسات من العالم الآخر: لحظة الرعب المطلق

فجأة، بدأت الشموع ترتعش بقوة، واللهب يكاد ينطفئ، وكأن قوة خفية تعبث بها. بدأت الهمسات الخافتة التي سمعتها في الأزقة تتعالى تدريجيًا، تصبح أصواتًا واضحة، لكنها كانت بلغة غير مفهومة، لغة قديمة وغريبة تركت رعشة باردة تسري في أوصالي، لغة لم تسمعها أذني من قبل لكنها أيقظت في داخلي شعورًا بدائيًا بالخوف.

حاولت أن أصرخ طلبًا للمساعدة، لكن صوتي خانني، وكأن شيئًا ما يكتم أنفاسي. حاولت أن أهرب من هذا الكابوس الماثل أمامي، لكن قدماي كانتا مثبتتين على الأرض وكأنهما مغروستين في الصخر، عاجزتين عن الحركة. شعرت وكأنني أسير في حلم كابوسي لا نهاية له، حيث المنطق يتلاشى والواقع يصبح مشوهًا ومخيفًا.

ثم، بدأت المرأة العجوز تتحرك ببطء شديد. رفعت يدها النحيلة والشاحبة باتجاهي، وأظافرها الطويلة والمدببة تبدو وكأنها مخالب حادة تستعد للانقضاض. شعرت بقوة خفية تسحبني نحوها، قوة لا مرئية لكنها قوية، وكأنني قطعة مغناطيس يجذب نحو قطعة حديد لا مفر منها.

الهروب من الظلال نهاية ليلة الرعب

في لحظة يأس مطلق، أغمضت عينيّ بقوة، وتضرعت في داخلي بكل ما أملك من قوة أن ينتهي هذا الكابوس المريع. سمعت صوتًا غريبًا، كصوت الرياح العاتية التي تهب في ليلة شتوية باردة، صوتًا يصم الآذان للحظة ثم يتلاشى فجأة، ليحل محله صمت مطبق أثقل من ذي قبل.

فتحت عينيّ ببطء حذر. كانت الغرفة لا تزال مضاءة بالشموع الراقصة، لكن المرأة العجوز اختفت تمامًا. لم يكن هناك أي أثر لوجودها. الكتاب القديم والأدوات الغريبة كانت لا تزال ملقاة على الطاولة، لكن الجو المخيف الذي كان يلف المكان قبل لحظات قد تبدد وكأنه لم يكن موجودًا أبدًا.

شعرت وكأنني استيقظت من حلم سيء طويل ومفزع. لكن الرعب الذي شعرت به كان حقيقيًا جدًا، ولا يمكن أن يكون مجرد وهم أو خيال.

تراجعت للخلف ببطء شديد، وعيناي لا تفارقان المكان الذي كانت تجلس فيه المرأة العجوز قبل لحظات، ثم استدرت وركضت بأسرع ما يمكنني، نزولًا على الدرج الحجري القديم الذي كان يئن تحت خطواتي المتسارعة، عبر الفناء المترب الذي بدا أكثر وحشة في ضوء القمر الشاحب، وخرجت إلى أزقة فاس المظلمة التي بدت فجأة أكثر ترويعًا من أي وقت مضى. لم أتوقف عن الركض المحموم حتى وصلت إلى الفندق الذي أقيم فيه، وأغلقت الباب عليّ بإحكام، وأنا أرتجف من الخوف والصدمة، وأحاول استيعاب ما رأيته وعشته في تلك الليلة المشؤومة.

تفسيرات مرعبة وحقائق مريرة لعنة قصر الجن

في صباح اليوم التالي، سألت السكان المحليين عن القصر المهجور الذي رأيته في الليلة السابقة. وصفته لهم بدقة متناهية، لكنهم نظروا إليّ بدهشة وريبة ممزوجة بالشفقة. قالوا إن ذلك القصر مهجور منذ عقود طويلة، وإنه لا يسكنه أحد على الإطلاق. بل إن البعض منهم همس بحذر عن لعنة قديمة تصيب كل من يجرؤ على الاقتراب منه في الليل، وعن أرواح حاقدة تسكن جدرانه وتنتظر ضحايا جددًا.

لم أعد أبدًا إلى تلك الأزقة المظلمة التي شهدت ليلة الرعب تلك. بقيت تلك التجربة المريرة عالقة في ذهني ككابوس أبدي، يوقظني في منتصف الليل بفزع. لم أعد أشك بعد ذلك في قصص الجن والأرواح التي تتناقلها الأجيال في مدينة فاس القديمة. فقد لمست بنفسي جانبًا مظلمًا من هذه المدينة الساحرة، جانبًا يختبئ في ظلال القصور العتيقة، ينتظر بصبر ضحية أخرى تضل طريقها في سكون الليل. وتلك الليلة في "قصر الجن"، كما أطلق عليه السكان المحليون بخوف ورهبة، كانت ليلة لا تُنسى، ليلة فتحت عينيّ على عالم آخر، عالم من الرعب والغموض الذي يتجاوز حدود فهمنا وإدراكنا. ولا يزال صدى صوت الهمسات الخافتة يتردد في أذني حتى يومنا هذا، تذكيرًا دائمًا بالسر المخيف الذي يكمن في قلب فاس القديمة، سر لا يرغب أحد في كشفه.

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-